انقلاب 10 يوليو: من قبض ثمن اتفاقية السلام مع البوليساريو؟

h

انقلاب 10 يوليو: من قبض ثمن اتفاقية السلام مع البوليساريو؟

السبت 14 أيلول (سبتمبر) 2013

توقيع الاتفاقية في الجزائر (ملف من اعداد "أقلام")
كشف البشير مصطفى السيد، مسؤول أمانة التنظيم السياسي لجبهة البوليساريو، مؤخرا، عن أن البوليساريو "كانت على علم بتغيير جذري سيحصل في موريتانيا يطيح بنظام ولد داداه وهو ما جعلها تدخل في هدنة غير معلنة لمدة ثلاثة أشهر قبل الانقلاب".
تصريحات المسؤول الصحراوي وردت ضمن مداخلة له خلال اجتماع عقدته الخارجية الصحراوية بداية شهر أغشت 2013 للرد على ما اعتبرته "استفزازات متكررة لوسائل الاعلام الرسمية الموريتانية". وهي وإن كانت تكشف حجم الغضب الذي يشعر به الصحراويون، فإنها قد تكون بداية الخيط الذي سيكشف بعض ألغاز انقلاب العاشر من يوليو وخصوصا ذلك اللغز المتعلق بالجهة الخارجية التي دبرته عن طريق حلفائها الداخليين وضمنت من خلاله تحقيق مصالحها الاستراتيجية.
لم يكن صدفة أن الصحراويين حين شعروا بالغضب من الموريتانيين تذكروا "اتفاقية السلام" ومنحوا الكلمة للبشير مصطفى السيد بالذات. فالرجل هو مهندس الاتفاقية التي تعتبر شهادة حية على الإذلال الذي تعرضت له موريتانيا ودليل إدانة لحكامها العسكريين الذين تصرفوا آنذاك بكثير من "الخفة" مع قضية بالغة التعقيد.
لقد كانت أهداف الجبهة من الاتفاقية واضحة كما حددها البشير مصطفى السيد: "هدف عسكري استراتيجي: تحويل جهد الحرب نحو هدف واحد هو المغرب، هدف سياسي دبلوماسي: يزيد من رصيد جبهة البوليساريو والحكومة الصحراوية بانتصار جديد على الساحة السياسية والدبلوماسية، هدف حقوقي قانوني في اعتراف بحق الشعب الصحراوي في السيادة على أرضه". أما حكام نواكشوط فكانوا يكتفون بالحديث عن أن "وجود موريتانيا كدولة حرة ومستقلة، يبقى مهددا إذا لم تخرج من تلك الحرب المرفوضة شعبيا"، كما ورد في تصريح للمقدم أحمدو ولد عبد الله، قائد أركان الجيش الوطني يوم 8 أغسطس.
(الصورة: سيد احمد ولد ابنيجاره)
فما الذي حدث حينها؟ الملفت للانتباه أنه لا أحد من بين المسؤولين المباشرين عن توقيع الاتفاقية مستعد للدفاع عنها، وكل ما هنالك هو تدافع في المسؤوليات نجمت عنه حالة من الغموض لا تسمح بالتعرف على المسؤول الفعلي عن توقيع الاتفاقية.
بالنسبة للعقيد أحمد سالم ولد سيدي –الذي وقع الاتفاقية باسم موريتانيا- فإن دوره لم يكن أكثر من "منفذ للأوامر"، حيث يقول في مقابلة له مع صحيفة "جون آفريك" (العدد 1016 بتاريخ 25 يونيو 1980): "بعض الموريتانيين قالوا هذا استسلام، أنا أقول لقد كنت عسكريا وطبقت التعليمات". ثم يضيف حول ملابسات الاتفاقية:
"لقد أقمت من قبل مرتين في الجزائر، يوم 30 يونيو ثم يوم 17 يوليو (1979) للتباحث، ليس مع البوليساريو وإنما مع الحكومة الجزائرية. كان من يحاورونني هم العقيد قصدي مصباح؛ أحمد طالب الإبراهيمي، الوزير المستشار بالرئاسة، ومحمد الصادق بن يحيى وزير الشؤون الخارجية. كان هدفنا إعادة البوليساريو، التي زادت أطماعها ، إلى رشدها.
غير أن الجزائريين، رغم ما أبدوه من مودة تامة، كانوا كثيري المطالب: لم يكونوا يرضون بأقل من قلب التحالفات رأسا على عقب، الاعتراف بالجمهورية الصحراوية قبل القمة السادسة عشرة لمنظمة الوحدة الإفريقية بمنروفيا (يوليو 1979)، التنديد باتفاقيات مدريد الموقعة بتاريخ 14 نوفمبر 1974. إذن لم يحدث تفاهم مع الجزائريين.
فور عودتي إلى نواكشوط، أبلغت الوزير الأول خونا ولد هيداله، الذي كان ذاهبا إلى منروفيا (17 ـ 20 يوليو) بفشل المفاوضات. ولدى عودته، قدم للجنة العسكرية للخلاص الوطني إطارا لاتفاقية مع البوليساريو، فاوض بشأنها في العاصمة الليبيرية مع الجزائر والجبهة.
تم اختياري من جديد للذهاب إلى الجزائر من أجل إضفاء صيغة نهائية على تلك الاتفاقية. كنت مرفوقا بالمقدم أحمدو ولد عبد الله، قائد الأركان،ولم يكن لدي أدنى هامش للمناورة؛ حتى أنني لم أكن مخولا لأن أطلب من البوليساريو الإفراج عن معتقلينا لديها والذين كانوا بالمئات". (أبي طالب عبد القادر: حق الرد على هيداله).
أما بالنسبة للرئيس السابق ولد هيدالة فإن الأمر يتعلق بخيانة البوليساريو وخصوصا وزير خارجيتها البشير مصطفى السيد للتفاهمات التي حصلت معهم في منروفيا. وفي مذكراته يشرح الرئيس هيداله موقفه أكثر: في منروفيا "قدمت لهم مقترحين: إما أن نعيد الجزء الذي لدينا للأمم المتحدة تقرر فيه ما شاءت.. وإما أن نستدعي الأمم المتحدة لتجري استفتاء لتقرير مصير في الجزء الواقع تحت سيطرتنا. وقد قبل بشير هذا بل قبلوه جميعا".
"وبعد عودتي إلى نواكشوط .. أرسلنا النائب الثاني لرئيس اللجنة العسكرية المقدم أحمد سالم ولد سيدي وقائد الأركان الوطنية المقدم أحمدو ولد عبد الله إلى الجزائر للتفاوض مع البوليساريو وفوضتهما قبول أي من المقترحين كما أوصيتهما بالتكتم على مهمتهما لأن فرنسا إن علمت بما يريدان فستسعى لعرقلته.. واستمرت مفاوضتهم ثمانية أيام وفي الأخير وقعوا اتفاقية الجزائر المشهورة التي تنص في بند سري على تسليم الصحراء للبوليساريو بعد 9 أشهر من تاريخ توقيعها".
"فلما عاد إلى مفاوضانا بالاتفاق الجديد الذي لم يكن لي به أي علم ولم أفوضهما القبول به، وجدت أننا صرنا أمام مشكلة حقيقية ودخلنا في ورطة كبرى".
أين تكمن الحقيقة إذا؟ وما معنى أن يكون المقدم أحمد سالم ولد سيدي "مامورا" في وقت يكون فيه الرئيس ولد هيدالة متفاجئا بمضمون الاتفاقية؟ وهل يعني ذلك أن جهات أخرى دبرت الاتفاقية بليل ومررتها على العسكريين حتى من دون أن يستوعبوا أبعادها الفعلية؟ أم أن الحكام العسكريين كانوا مرعوبين من الحرب لدرجة أنهم كانوا جاهزين للتوقيع على استسلامهم بتلك الطريقة؟
تخبط حكام نواكشوط
كان من الجلي أن الهدف الرئيسي المعلن للانقلاب هو وقف الحرب مع الصحراويين، غير أن ما أسماه الملك الحسن الثاني حينها "تخبط حكام نواكشوط" قد منع من تحقيق ذلك الهدف بأقل الخسائر الممكنة. في البداية اعتمد الحكام الجدد ما أسموه "الحل الشامل" الذي يراعي مصالح مختلف الأطراف المتنازعة بما في ذلك المغرب وعينوا لجنة لمفاوضة الصحراويين تشكلت من: عبد القادر كمرا، هيبه ولد همدي، المحجوب ولد بيه.
قبل ذلك كان الزعيم القذافي قد طرح على مائدة النقاش مسألة الوحدة بين موريتانيا والصحراء، على أول وفد يزوره من موريتانيا بعد أسبوع من الانقلاب ضم كلا من الرائد مولاي ولد بوخريص والناشطان في الجناح المدني للانقلاب: المحجوب ولد بيه واحمد الوافي. وأعطى الوفد موافقة موريتانيا المبدئية على الفكرة ودخل في مفاوضات مباشرة مع وفد صحراوي برئاسة محمد عبد العزيز تحت إشراف القذافي وربما من دون إذن مسبق من قيادتهم.
(الصورة: المحجوب ولد بيه)
وقبل نهاية سنة 1978، ظهر القائد الفعلي للجناح المدني للانقلاب سيد احمد ولد ابنيجاره في عدة عواصم يحمل ملف المفاوضات مع الصحراويين وقد طور مقترح القذافي القاضي بالوحدة بين الموريتانيين والصحراويين، إلى صيغة تمنح بعض الاعتبار لانشغالات مختلف الأطرف، حيث تشير إلى "الاستغلال المشترك لخيرات الصحراء بين الموريتانيين والصحراويين والمغاربة والجزائريين، منح الجزائر ممرا إلى المحيط الأطلسي، منح المغرب شريطا في شمال الصحراء الغربية، إقامة علاقات مميزة بين الدولة الموريتانية الصحراوية مع المغرب والجزائر". (موريتانيا المعاصرة).
كما كان هناك الموقف الذي يتبناه الرائد جدو ولد السالك والقاضي بأن "الحل المناسب لمشكلة الصحراء في ذلك الوقت هو تشكيل حكومة وحدة وطنية بين موريتانيا والبوليساريو، علي غرار ما حدث في تلك الآونة بين المتمردين في شمال تشاد بقيادة حسين هبري والحكومة المركزية في اتشاد"، معتبرا أن "هذه الحكومة إذا ما شكلت تمتلك نصف الصحراء (تيرس الغربية أو ما يعرف باقليم وادى الذهب) وعليها أن تتفاوض مع المغرب من أجل حل سلمي". طبقا لما نقله الصحفي محمد الحافظ ولد محم في شهادة له تحت عنوان: العاشر يوليو وخط جريدة "الشعب".
وبعد وصول المقدم أحمد ولد بوسيف إلى السلطة في 6 ابريل 1979، بادر بالشراكة مع المقدم كادير إلى إعداد وثيقة سرية حول القضية الصحراوية خلصت إلى أن "السلام لن يكون بأي ثمن ولن يكون إلا شاملا"، غير أن المفارقة تمثلت في أنه في الوقت الذي كانت فيه القيادة الجديدة للبلاد (ولد بوسيف وكادير) تعيد النظر في موقفها من السلام مع الصحراويين، كان وزير خارجية موريتانيا أحمد ولد عبد الله يوقع في طرابلس يوم 19 ابريل على اتفاق مع البوليساريو هو الأغرب من نوعه حيث لا ينص فقط على تسليم "تيرس الغربية" إلى الصحراويين وإنما أيضا على طرد القوات الفرنسية من موريتانيا وعلى إغلاق أجوائها في وجه الطيران العسكري الفرنسيᵎ كما يتعهد بموجبه بتوقيع موريتانيا لاتفاقية سلام مع الصحراويين يوم 26 مايو 1979ᵎ
(الصورة: احمدو ولد عبد الله)
الاتفاق المثير
في وثيقة غير منشورة من يومياته –حصلت عليها أقلام- يتساءل المقدم كادير قائلا: "وقع السيد أحمدو ولد عبد الله في طرابلس اتفاقا بالتخلي عن تيرس الغربية. وقد سارعت الحكومة التي لم تفوضه لعقد ذلك الاتفاق باسمها إلى التشكيك في صدقية تلك الوثيقة. ويجري الحديث في الشارع عن أن توقيع السيد أحمدو ولد عبد الله تم انتزاعه مقابل الكثير من النقود. فما الذي حصل بالفعل؟".
(الصورة: وثيقة من يوميات العقيد كادير، خاصة وحصرية ل"أقلام")
وينقل مؤلف كتاب "موريتانيا المعاصرة" عن السفير الموريتاني في طرابلس خلال تلك الفترة محمد محمود ولد ودادي، بعض تفاصيل الموضوع: "لقد اعترضت على البنود المتعلقة بالموقف من فرنسا وتمت إعادة صياغة جديدة للوثيقة تم فيها النص على الانسحاب بدل التسليم وحذف البنود المتعلقة بالفرنسيين. وقد رفض رئيس الوفد الصحراوي محمد الأمين ولد أحمد التوقيع على الاتفاق بعد التعديلات التي أدخلت عليه".
ويضيف السفير "وفي بيت العقيد القذافي حيث كنا نجلس جميعا اتصل القذافي بالرئيس المصطفى الذي رفض بدوره الاتفاق في صيغته الأولى. وقد كان الوزير أحمدو ولد عبد الله قد وقع بالأحرف الأولى على الاتفاق".
ويختتم السفير ولد ولد ودادي شهادته قائلا: "رئيس الوزراء أحمد ولد بوسيف قال بأنه لا علم له بهذا الاتفاق. وقد سألت الوزير أحمدو ولد عبد الله لماذا قبلت التوقيع على هذا الاتفاق فرد على بأنه يريد ضرب الجزائر وليبيا بعضهم ببعض. وعندما احتجت الحكومة على الوزير أحمدو ولد عبد الله قال بأنه لا يعرف العربية وأن السفير محمد محمود ولد ودادي هو المسؤول عن هذا الأمر".
إذا كان من الواضح أن الموضوع بالغ الأهمية بالنسبة للصحراويين الذين وإن كنوا قد حصلوا على بعض الاعتراف إلا أنهم متلهفون لإثبات أن لديهم وجودا على الأرض ويسابقون الزمن لتحقيقه على حساب "الحلقة الأضعف" (موريتانيا) خصوصا وأنها تمر بمرحلة انتقالية، فما الذي تبحث عنه ليبيا من وراء اتفاقية مماثلة؟ وهل إشراف القذافي شخصيا على مفاوضات بمستوى وزراء الخارجية يكشف أنه مستعد فعلا لدفع مبالغ طائلة مقابل التوقيع؟
(الصورة: مولاي ولد بوخريص)
وكيف يمكن تفسير سلوك وزير الخارجية الموريتاني –الذي سيصبح فيما بعد مسؤولا أمميا ساميا- حين قبل بالتوقيع على اتفاق على هذا المستوى من الغرابة؟
مهما يكن فإن البوليساريو وجدت في اتفاق طرابلس ضالتها المنشودة واستخدمته أكثر من مرة للضغط على السلطات الموريتانية لدرجة أن أمينها العام محمد عبد العزيز هددهم في الرابع والعشرين مايو 1979، قائلا: "نأمل أن تقدر سلطات نواكشوط النتائج الكارثية لتغيبهم عن طرابلس يوم 26 مايو من أجل مناقشة اتفاق الانسحاب من تيرس الغربية الموقع من طرف وزير الخارجية الموريتاني". كان ذلك قبل 3 أيام من تحطم طائرة رئيس الوزراء أحمد ولد بوسيف وفي نفس اليوم الذي اكتشفت فيه أجهزة الأمن الموريتانية على شاطئ المحيط قرب نواكشوط، رادار مراقبة يديره أربعة ليبيينᵎ
فهل كان الأمر مجرد صدفة غريبة هي الأخرى؟ أم أن الصحراويين أو الليبيين أو هما معا كانوا جاهزين بالفعل لمعاقبة "حكام نواكشوط" على التغيب عن طرابلس يوم 26 مايو؟ مع العلم أن ولد بوسيف كان قد صرح بداية شهر مايو بأن: "الانسحاب من واد الذهب (تيرس الغربية) سيكون مرتبطا بتقرير مصير الصحراء الغربية"، نافيا أن تكون موريتانيا "قد وقعت أي بروتوكول اتفاق في طرابلس يتعلق بتنازلها عن واد الذهب وأن المعلومات التي تم تدولها بهذا الشأن لا أساس لها من الصحة".
من طرابلس إلى الجزائر
ما إن سقطت طائرة الوزير الأول أحمد ولد بوسيف في المحيط، واستتب الأمر لرئيس الوزراء الجديد ولد هيدال بعد إقصائه للعقيد المصطفى ولد محمد السالك وتشكيل حكومته يوم 3 يونيو، حتى تسارعت الأمور بشكل لافت سواء على المستوى الداخلي (هيداله يعلن خلال اجتماع لمجلس الوزراء أن البوليساريو حليف موضوعي لموريتانيا) أو على المستوى الخارجي حيث ستنطلق مفاوضات جديدة مع البوليساريو وتخرج إلى العلن شخصية مثيرة للاهتمام ظلت حتى ذلك الوقت تكتفي بالتواجد في الكواليس.
وبحسب ما يرويه الرئيس ولد هيدالة في مذكراته، فإن الاتصالات مع البوليساريو كانت تتم عبر وسيط هو أحمد باب مسكه الذي سبق وأقام سرا لعدة أيام في القصر الرئاسي بدعوة من الرئيس المصطفى ولد محمد السالك بعد أن كان قد دخل إلى البلاد التي غادرها نهاية الستينات من جهة سينلويس بالتنسيق مع وزير الخارجية شيخنا ولد محمد لقظف. وحين وصل هيدالة إلى السلطة جدد أحمد باب الاتصال به واتفقا على عقد اجتماع بين موريتانيا والبوليساريو على هامش مؤتمر منروفيا خلال شهر يوليو.
ورغم أن البوليساريو ستتحدى "حاكم نواكشوط" الجديد بتنفيذ هجومها الدموي على تشله يوم 12 يوليو، فإن ولد هيداله سيستجيب لضغوط من الرئيس المالي موسى اتراوري ويقبل في منروفيا استقبال البشير مصطفى السيد الذي كان –بحسب الرئيس هيدالة- "متشنجا خلال اللقاء وظل يضرب الطاولة ويقول سلموا لنا أرضنا، انهوا احتلالكم لأرضنا.."، ثم سيستجيب لضغوط جزائرية للقاء البشير مجددا في منروفيا ويتفق معه بطريقة "غامضة للغاية" على مواصلة المفاوضات في الجزائر، بحسب تعبير الدبلوماسي الفرنسي برتراند فيسار دفولولت (المعروف ب"ولد كيجه").
(الصورة: أحمد باب مسكه وأحمد الوافي)
وفي منروفيا كان هناك أحمد باب مسكه كما أنه سيرافق "كشبح" الوفد الموريتاني المتوجه إلى الجزائر لعقد اتفاقية السلام. فحين سأل الصحفي بشير بن يحمد المقدم احمد سالم ولد سيدي خلال مقابلته المذكورة آنفا: "يبدو أن أحمد باب مسكه لعب دورا مهما في هذا الاتفاق"، أجابه قائلا: "كلما اعرفه أن أحمد باب كان مع هيداله في منروفيا. وفي يوم ذهابنا إلى الجزائر عبر فرنسا حاول الاتصال بي من دكار وكان موجودا بعد ذلك في باريس ولكنني لم ألتق به في فرنسا. وفي الجزائر فرض علينا البروتوكول الجزائري حضوره وكان في القاعة التي تم فيها التوقيع".
أي دور لعبه أحمد باب في اتفاقية الجزائر وهو الذي التحق بالبوليساريو منذ سنة 1974 وتركها بهدوء سنة 1978 بعد صدور كتابه "جبهة البوليساريو: روح شعب"؟ هل من باب الصدف أن يترك أحمد باب العمل مع البوليساريو في نفس الفترة التي يحصل فيها الانقلاب العسكري في موريتانيا وأي علاقة له بذلك الانقلاب؟ وهل كان هناك اتفاق مسبق بينه وبين الانقلابيين على لعب دور في موريتانيا في مرحلة ما بعد الانقلاب؟
من قبض ثمن الاستسلام؟
في يوم 23 أغسطس 1979، نقلت وكالة الأنباء المغربية عن صحيفة "الميثاق الوطني"، اتهاما ل"مسؤولين موريتانيين" بأنهم قبضوا مقابل اتفاقية الجزائر 170 مليون دولار من السلطات الليبية. ونسبت الصحيفة لمصادر دبلوماسية موثوقة أن المسؤولين المعنيين اشترطوا أن يسلم لهم المبلغ يدا بيد في شكل أوراق من فئة 1000 و 100 دولار وأن الليبيين تعهدوا بتقديم دعم للخزينة الموريتانية.

هل كانت الصحيفة المغربية تخلط بين ما جرى الحديث عنه حول الثمن المقبوض مقابل اتفاق طرابلس؟ أم أنه تم دفع ثمن آخر مقابل التوقيع على اتفاقية الجزائر التي ليست في النهاية سوى اتفاق طرابلس وقد أدخلت عليه تحويرات ضئيلة؟ أم أن الأمر يتعلق فقط بحملة تشويه كانت الصحافة المغربية قد بدأتها ضد موريتانيا بعد توقيعها لاتفاقية الجزائر؟
ما هو مؤكد أن حكام نواكشوط قد أصدروا بيانا –فور عودة ولد هيداله من منروفيا- يعربون فيه عن عدم وجود أطماع لديهم في الصحراء، وأن المقدم محمد محمود ولد الحسين، وزير الإعلام، صرح يوم 2 أغسطس 1979 (أي قبل توقيع الاتفاقية بثلاثة أيام) بأنه: "لو تمت استشارة الشعب الموريتاني، لما قبل أبدا تقديم كل هذه التضحيات من أجل قطعة من الرمال لم يسبق له أن طالب بها". كما أن اللجنة العسكرية صادقت على اتفاقية الجزائر كما هي ومع بندها السري بعد عودة المفاوضين بها وسط توزيع واسع لملتمس تأييد لها وقع عليه 400 إطار. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل أعلنت موريتانيا يوم 14 أغسطس استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الجزائر قبل أن تنسحب في اليوم الموالي من تيرس الغربية تحت ذريعة العجز عن تنفيذ التعهدات المرتبطة بذلك الاقليمᵎ
هل يعني كل ذلك أن اتفاقية الجزائر كانت "مفاجأة غير سارة" لحكام نواكشوط، أم أنها طبخت على نار هادئة في أنفاق مظلمة لا يراد للنور أن يعرف إليه سبيلا حتى بعد مرور أكثر من 3 عقود عليها؟
في ظل صمت الشهود واعتبار بعضهم أن الوقت لم يحن بعد لكشف أسرار تلك الفترة (المحجوب ولد بيه مثلا)، لن يكون هناك مناص من توجيه أصابع الاتهام إليهم، على الأقل أملا في أن يفرجوا عن معلومات لا يمتلكون الحق في استمرار إخفائها عن الشعب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق